سمع صوت أمه وهي تنادي جارتها: “معك قليل رز لجهالي، قدهم بلا قراع ويبكوا من الجوع” كلمات أمه نزلت كالرصاص على قلبه، يقول أحمد اسم مستعار: “تخشبت قدماي وتسمرت في مكاني، وأفلتت يداي دفاتري وكتبي”، بهذه العبارة المؤثرة بدأ الشاب أحمد، البالغ من العمر 17 عامًا، سرد حكايته المليئة بالألم والمعاناة.
في حيّ متواضع بمنطقة الشيخ عثمان في العاصمة المؤقتة عدن، كان أحمد يحلم بمستقبل مشرق مليء بالأمل والطموح، ولكن ذلك الحلم تحطم عندما أجبرته ظروف أسرته الفقيرة على ترك المدرسة، ينتمي أحمد للأقليات المهمشة في اليمن أو كما هو معروف في الأوساط المجتمعية المسمى السائد (الأخدام). تعتمد هذه المجاميع على العمل ذات الأجر اليومي لمهن شاقة جدا (كاالحمالة) وهي المهنة التي يعتمد عليها أبو أحمد لسد الأحتياجات الأسرية اليومية حيث تعتبر هذه المهن قليلة الدخل ذات مشقة عالية.
يقول: “بعد أن سمعت أمي تطلب المساعدة، أخذت عهدًا على نفسي ألا يتكرر هذا الموقف، أمي صاحبة النفس العزيزة لا تستحق ذلك،” وأضاف: “تركت مقاعد الدراسة ومعها تركت حلمي وزملائي، واتخذت قرارًا سأدفع ضريبته طول عمري، مع ذلك، لست نادمًا.”
رحلة أحمد من السوق الى المعسكر
في سبيل توفير لقمة العيش لاسرتة، بدأ أحمد رحلته للبحث عن عمل، يقول: “ذهبت باكرًا إلى السوق في مديرية الشيخ عثمان، لكن لم أجد أي فرصة عمل، ثم قررت الذهاب عصرًا إلى السوق المركزي بمديرية المنصورة، هناك جمعت بعض البطاط والطماطم والبصل والبسباس مما تناثر من البسطات وعدت إلى البيت ليلاً.”
استمر أحمد في العمل في سوق الخضروات لمدة شهر، حيث كان ينقل صناديق الخضروات الثقيلة، يتذكر: “كنت أعمل بجاري أنقل سلل البطاط والطماطم وأكياس البصل، أي شيء يطلب مني أنقله.”
وفي أحد الأيام، بينما كان يعمل في السوق، سمع أحمد حديثًا بين تاجر وزبون حول تسجيل ابنه في إحدى الوحدات العسكرية التي تدفع رواتب بالريال السعودي، يقول: “اغتنمت الفرصة وحملت أغراض التاجر على الجاري وأوصلتها إلى سيارته الفارهة، حينها أخبرني أنه سيسجلني في أي وحدة عسكرية بعد أن شرحت له ظروفي، رقّ لي، وأخذ اسمي وقال لي: ان شاء الله يصير خير.”
بعد أقل من شهر، تلقى أحمد اتصالًا وتم إرساله للالتحاق بأحد الألوية في الساحل الغربي. يقول: “فرحت كثيرًا، ولكن فرحتي لم تدم طويلًا، خابت توقعاتي عندما لم أحصل على رقم عسكري أو راتب ثابت، كان هناك الكثير ممن إلتحق معي حصلوا على أرقام عسكرية، تعتبر الأرقام العسكرية فتوى رسمية لأي جندي مستحدث وهذا مالم يحصل تماما لأحمد، يقول: تم استغلالي فقط لإيصال الطعام للجنود في الجبهات، كوني من المهمشين.”
الفاجعة الكبرى:
في أحد الأيام، بينما كان أحمد ينقل الطعام لجنود أحد الألوية التابعة للقوات المشتركة (تطلق هذه التسمية على تشكيلات عسكرية جنوبية، إلى جانب قوات أخرى شكّلها طارق صالح بعد خروجه من صنعاء، بالإضافة إلى قوات محلية تعرف باسم المقاومة التهامية تعمل كلها في مهمات قتالية في الساحل الغربي اليمني، وتتمركز في مدينة المخا الساحلية،). وبالتحديد جبهة الدريهمي، تعرض الموقع لقصف عنيف من قبل جماعة الحوثيين المسلحة، يروي أحمد: “فجأة، تحولت السماء إلى نيران، لم أشعر بشيء، عندما استيقظت، وجدت نفسي في مستشفى صابر في عدن، فتحت عيني، لكنني رأيت نصف الغرفة فقط، شعرت بألم رهيب في رأسي.”
أخبره الطبيب أن شظايا القصف اخترقت جمجمته وأخذت عينه اليسرى، ما اضطر الأطباء إلى تركيب صفيحة حديدية لحماية رأسه.
المعاناة بعد الإصابة.
عاد أحمد إلى منزله بعين واحدة ونصف جمجمة، ليواجه واقعًا مؤلمًا، يقول: “مكثت في البيت أقل من شهر، لم يقدم لي اللواء الذي كنت أعمل معه أي راتب أو تعويض مادي، العلاج في مستشفى صابر لم يكن كافيًا، أعاني من آلام مزمنة بسبب الصفيحة الحديدية التي تثقل رأسي، وأحزاني على صحتي ومستقبلي تزداد يومًا بعد يوم.”
يتابع أحمد حديثه بصوت مملوء بالحزن: “الصفيحة تجعلني غير قادر على النوم أو العمل، أصبحت عالة على أسرتي وعلى نفسي أيضًا، لا أريد أن أعيش هكذا!”
المهمشين في هرم الهشاشة المجتمعية و غياب القانون ويعيش أحمد اليوم، وأسرته في ظروف صعبة للغاية، حيث لا يتوفر لهم حتى قوت يومهم، بينما يحلم بالسفر إلى الخارج لإزالة الصفيحة واستكمال العلاج، لكنه يعلم أن هذا الحلم بعيد المنال في ظل الوضع الحالي.خاصة مع غياب الدعم الحكومي و تراجع الدعم الدولي للمنظمات و التي تقتصر عادة على تقديم خدمات محدودة للمدنيين ومنذ اندلاع الحرب في اليمن عام 2015، تحول الأطفال إلى ضحايا مباشر لهذا النزاع المدمر حيث تحدّثت اليونيسف في تقريرها الصادر في العام 2022 عن مقتل 3774 طفلا (2742 فتى و983 فتاة و49 مجهولا)، وإصابة 7245 طفلا (5299 فتى و1946 نتيجة القصف والغارات الجوية والألغام التي مزقت أجسادهم البريئة.
فيما تجاوز عدد الجرحى حتى العام ذاته 16,000 طفل، الكثير منهم يعاني من إعاقات دائمة أثرت بشكل جذري على مستقبلهم ولم تقتصر على الجروح الجسدية، بل تركت أثرًا عميقًا في نفوسهم، إذ فقدوا القدرة على العيش كشباب عاديين.
وتأتي هذه المعاناة في الوقت الذي يحرّم فيه القانون اليمني تجنيد الأطفال واستخدامهم في الأعمال العسكرية، وذلك تماشيًا مع الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها اليمن، ووفقًا لقانون حقوق الطفل اليمني يُعتبر أي شخص أقل من 18 عامًا طفلًا، وبالتالي فإن تجنيده أو إشراكه في النزاعات المسلحة يُعد انتهاكًا للقانون.
ويعتبر المهمشون في اليمن من الفئات الاجتماعية التي تواجه العديد من التحديات الاقتصادية والاجتماعية، ويعانون من التمييز في مختلف جوانب الحياة، سواء في التعليم أو الصحة أو فرص العمل. يطلق عليهم أحيانًا اسم “المهمشين” أو “الأخدام كما أوضحنا مسبقا وهم يشكلون جزءًا من الفئات الأكثر فقرًا في المجتمع اليمني.
الواقع الاقتصادي المتدني في اليمن: يعيش اليمن اليوم في ظروف اقتصادية صعبة للغاية نتيجة للحرب المستمرة منذ 2015، التي أدت إلى دمار البنية التحتية وتدهور الاقتصاد الوطني. تشير التقارير إلى أن أكثر من 80% من السكان بحاجة إلى مساعدات إنسانية، مما يعكس حجم الأزمة الاقتصادية.
المهمشون يعانون من هذا الوضع بشكل مضاعف، حيث يصعب عليهم الوصول إلى فرص العمل أو التعليم، إضافة إلى قلة الدعم الحكومي أو المؤسسات الاجتماعية التي تعنى بمساعدتهم. في العديد من الحالات، يعتمد المهمشون على عمل غير رسمي مثل جمع النفايات أو العمل في الحرف اليدوية البسيطة، ويعيشون في مناطق فقيرة وعشوائية.
وتعد هذه الأرقام المروعة، حكايات معاناة يومية لأطفال كان من المفترض أن يعيشوا حياتهم بأمان، لكن الحرب لم تأخذ منهم حياتهم فقط، بل سرقت أحلامهم، وبراءتهم، ومستقبلهم، لتبقى المأساة شاهدة على فداحة ما يمكن أن تفعله الحروب بحياة الأجيال القادمة.
وقالت المديرة التنفيذية لمنظمة اليونيسف كاثرين راسل -في تقرير بعد زيارة لليمن في أغسطس 2022- “بالنسبة إلى الأطفال… أصبحت الحياة صراعا من أجل البقاء؛ لقد فقد الآلاف أرواحهم، ولا يزال مئات الآلاف غيرهم معرضين لخطر الموت”.
وحسب إحصاءات اليونيسف، قتل وأصيب أكثر من 11 ألف طفل منذ تصاعد النزاع مارس/آذار 2015 مع تدخل تحالف عسكري بقيادة السعودية لمساندة الحكومة لوقف زحف الحوثيين -المدعومين من إيران- الذي بدأ منتصف 2014.
وتحتاج اليونيسف بشكل عاجل إلى 484.4 مليون دولار للاستجابة للأزمة الإنسانية في عام 2023، وفقا للتقرير وقالت راسل “في نهاية المطاف، وحده السلام المستدام سيتيح للعائلات إعادة بناء حياتها المحطمة والبدء في التخطيط للمستقبل”.
قصة أحمد ليست مجرد حكاية لشاب فقد عينه وأُثقل رأسه بصفيحة حديدية، بل هي صورة مؤلمة لواقع آلاف الأطفال والشباب الذين أصبحوا ضحايا للنزاعات المسلحة، إنها دعوة للمجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية لإنقاذ أحمد وأمثاله من هذا المصير المظلم.