تقرير – خاص…
لم يكن ذنب الطفل صابر -اسم مستعار- سوى انتمائه لفئة (المهمشين)، بالإضافة إلى كونه نازحًا من مدينة الحديدة (غرب اليمن)؛ حتى يتم الزّج به في غياهب السجون والمعتقلات العسكرية بمحافظة لحج (جنوب البلاد).
أربعة عشر ربيعًا فقط، هي عمر صابر، لم تكن كافيةً لمنع حبسه في معتقل يتبع وحدةً عسكرية بمحافظة لحج، (معكسر اللواء الخامس)، وبمبررات أقل ما تُوصف به أنها واهية وغير قانونية.
صابر ما يزال منذ قرابة شهرين متتاليين يقبع في المعتقل العسكري، اعتقال مستمر حتى لحظة كتابة هذا التقرير، دون أن يلتفت إلى وضعه أحد، أو تهتم بأمره الجهات المسؤولة المعنية بالطفولة.
وضع لا يتكبده صابر بمفرده، ولكنها حالة تتكرر مرارًا في العديد من المناطق اليمنية، شمالًا وجنوبًا، حيث تغيب الدولة، وتتوالى الانتهاكات بحق الطفولة، خاصةً المهمشين منهم والنازحين بالمقام الأول.
فغياب السلطات الشرعية، شجع عديد كيانات ووحدات عسكرية، وسلطات أمر واقع، على استحداث سجون خارج القانون تزج فيها كل من يعارضها، أو حتى كل من تنسجم معه، ولعل في قادم السطور تفاصيل وحقائق تؤكد هذه المأساة، التي لا يمثل فيها الطفل صابر سوى نموذجًا بسيطًا يتكرر كثيرًا.
مأساة صابر.. الإرهاصات
في ظروف معيشية صعبة، دفعت الحرب صابر وأسرته للنزوح برفقة أسرته المعدمة من الحديدة إلى لحج؛ ليستقر فيها رازحًا تحت أوضاع النزوح الموجعة، ولم يجد ما يعول به نفسه وعائلته سوى العمل في جمع (الحديد) و(البلاستيك)، بعوائد لا تُغني ولا تُسمن من جوع.
وربما هذه الحياة الصعبة، هي من أجبرت الطفل الصغير صابر على مد يديه الغضتين -بلا وعي أو إدراك- إلى (قطعة حديد) ليست من حقه، ساقته -رغم أنفه- إلى معتقل عسكري، يُعايش ويرى فيه كل ساعات يومه (عتاولة المجرمين)، رغم حداثة سنه.
القطعة التي اتهم فيها صابر تعود إلى أحد ملّاك ورش الحديد في محافظة لحج، هذا المالك استغل قرابته بقائد اللواء الخامس -المعسكر الذي يتخذ من المحافظة مقرًا له- ليتم تغييب الصغير صابر في معتقلاته، ليُمسي نزيلًا فيه منذ شهرين وحتى اليوم، وفقًا لتأكيدات الراصدين.
نصوص قانونية.. عرض الحائط
وبحسب مختصين قانونيين، بعضهم ضمن فريق الرصد، فإن قطعة الحديد التي اُتهم صابر بسرقتها لا تزيد قيمتها عن خمسة آلاف ريال يمني (أقل من دولارين ونصف)، وهي بذلك لا يُعاقب عليها القانون، بنص التشريع، باعتبارها أقل من النصاب الذي يستوجب العقاب، يقول القانونيون، ويضيفوا: إلا أن صابر الصغير بات ضحية هذه القطعة، وضحية نظرة الآخرين وأحكامهم المسبقة تجاهه.
ويشير المختصون إلى أن القائمين على المعسكر ألقوا بنصوص التشريعات عرض الحائط، وأودعوا صابر في معتقلات كان يجب أن يتجنبها، كونه ما زال حدثًا، غير أن هذا الحدث أضحى يعيش ظروف احتجاز غير إنسانية وغير مناسبة لطفل في سنه.
زاد على كل ذلك تعرض صابر للإهانة والضرب، وإكراهه على الاعتراف بنسب أفعال أخرى إلى نفسه لم يقترفها، بحسب مختصين قانونيين أكدوا أن الطفل صابر واجه تعاملًا ارتقى إلى مستوى انتهاكٍ يطلقون عليه (الاحتجاز التعسفي)، بكل ما في هذا التوصيف من تجاوزات.
فهو من ناحية ما زال حدثًا، لا يقر القانون باحتجازه في سجن مدني تابع للشرطة، ناهيك عن رميه في معتقل عسكري تابع لإحدى الوحدات المسلحة في محافظة لحج، بينما كان الأولى وضعه في مركز للأحداث.. يؤكد حقوقيون.
حتى أن تصريحات المختصين القانونيين تشير إلى أن الجهة المخولة قانونيًا للتحقيق مع الطفل صابر هي (شرطة الأحداث) وليست جهة عسكرية كما فعل اللواء الخامس بلحج.
ويواصل المختصون: كما أن التحقيق مع طفل مثل صابر لا يحق أن يتم إلا بوجود وحضور محامي، وحتى لو امتنع الطفل عن الكلام، فلا يجوز إكراهه واستخراج الاعترافات منه عنوةً، كما فعلوا مع صابر.
بالإضافة إلى كل ذلك التعسف في التعامل مع صابر، يقول المختصون إن صابر بات في عرف ونص القانون (معتقل بلا قضية)، حيث لم تتخذ الجهة العسكرية التي احتجزته أي إجراءات قانونية أو قضائية تستند إلى أي تهمةٍ موجهة إلى هذا الصغير.
رفض وصد الوسطاء والخيرين
ذاعت قصة صابر الأرجاء، وسمع به رجال الخير ممن بادروا وحاولوا التوسط لدفع الثمن البخس لـ(قطعة الحديد المسروقة) في سبيل فك حبسه من الاعتقال العسكري، غير أن كل تلك المحاولات اصطدمت بتعنت ورفض القائمين على المعتقل.
الوسطاء والراصدون لحالة الصغير صابر كشفوا أن أسباب رفض الإفراج عنه، وعدم قبول قيمة الحديد المسروق؛ تعود إلى كون صابر نازحًا، بالإضافة إلى انحداره من محافظةٍ شمالية (الحديدة)، في حالةٍ وصفوها بأنها تصرف (عنصري ومناطقي).
“رفض” أطال في مدة اعتقال صابر، لتصل إلى الشهرين حتى الآن، دون أي إجراءات قضائية أو حتى اتهام واضح يستحق عليه الحبس كل هذه المدة، حتى أن سجّانوه رفضوا التواصل مع المحامين المتطوعين، وأغلقوا قنوات التواصل مع الوسطاء والوجاهات الاجتماعية.
أهالي صابر.. الصابرون
الطفل صابر، لم يجد سوى أخيه الأكبر الذي يجتهد سعيًا لإطلاق سراحه، رغم أنه (على باب الله) وإمكانياته لا تسمح له برفع قضية أو متابعة حالة أخيه الحبيس، كما لم يحظَ إلا بمتابعة ودعم وسطاء خيرين باءت محاولاتهم بالصدود.
يقول شقيق صابر: إنه لا يقدر على متابعة قضية شقيقه الصغير، ولا يمتلك من الإمكانيات المادية ما يعينه على ذلك، بحكم حالتهم المعيشية، بالإضافة إلى كونهم نازحين وفي نفس الوقت ينتمون إلى فئة المهمشين، ما يجعلهم مواطنين (درجة ثالثة)!.
ويشير إلى أن صابر لم يتعمد سرقة قطعة الحديد، بل كان يقوم بعمله في جمع مخلفات البلاستيك والحديد، وحظه السيء ساقه إلى هذه القطعة -دون قصد- لتكون سببًا في حبسه.
ويرى شقيق صابر أن تعامل قيادات اللواء الخامس، وزد عليها نظرة المجتمع تجاههم، فرضت عليهم العيش بانطواء وانعزال عن الجميع، وممارسة الحياة (على استحياء)، مخافة التورط بأي إشكاليات إضافية.
داعيًا كل الحقوقيين والقانونيين، والمنظمات والكيانات المهتمة بالحريات إلى إنصاف شقيقه الصغير والتدخل لإطلاق سراحه حتى يعيش طفولته وسط أسرته، وليس بين المجرمين والمتهمين، فهو ما زال طفلًا قاصرًا.
رؤية أممية
إجمالاً، في 2024 استمرت الأمم المتحدة في دعواتها لتجريم الاعتداء على الأطفال في جميع الظروف، خاصة في مناطق النزاعات، مع التركيز على تعزيز المساءلة القانونية وزيادة الدعم الإنساني للأطفال في حالات الطوارئ.
ففي التقرير السنوي 2024 الخاص بمنظمة اليونيسيف حول حقوق الأطفال في النزاعات: أكدت اليونيسف في تقريرها لعام 2024 أن الأطفال في العديد من مناطق النزاع حول العالم ما زالوا يتعرضون لمخاطر كبيرة من العنف، بما في ذلك القتل، والتشويه، والاختطاف.
إضافة إلى العواقب النفسية التي تترتب على هؤلاء الأطفال جراء هذه الانتهاكات. كما دعت المنظمة إلى تعزيز التعاون الدولي لحماية الأطفال في هذه الأوضاع الصعبة.
ومن الواضح أيضا الإشارة إلى هذه الإنتهاكات بتقرير الأمين العام للأمم المتحدة لعام 2024 حيث أشار التقرير إلى زيادة كبيرة في حالات تجنيد الأطفال من قبل الجماعات المسلحة، واستهداف المدارس والمستشفيات، والهجمات المتعمدة ضد الأطفال في مناطق النزاع.
التقرير أكد أن عدد الأطفال المتضررين من النزاعات في تزايد مستمر، مشيراً إلى أن بعض الأطراف في النزاعات المسلحة لم تلتزم بالاتفاقيات الدولية لحماية الأطفال.
كما أظهر التقرير تزايد استخدام الأطفال كدروع بشرية، وهو شكل من أشكال الاستغلال البشع الذي يعرض حياة الأطفال للخطر.
مقترحات لتجاوز التهميش والنزوح
خلفت الحرب وتداعياتها الإنسانية في اليمن، وضعًا مأساويًا، نتيجة النزوح الداخلي، ما أدى إلى بروز مجتمعات منعزلة عن المجتمع المضيف، الذي بات ينظر لمجتمعات النازحين التي أنتجتها الحرب بتوجس.
كما عززت الحرب النظرة القاصرة تجاه فئات المهمشين، وساهمت السلطات العسكرية والأمنية للوحدات العسكرية بممارسة ما يشبه (الاضطهاد) بحق هذه الفئات المهمشة والنازحة.
وفي سبيل تجاوز هذا الوضع، يقترح خبراء العمل الإنساني تعزيز التوعية المجتمعية، وفرض السلطات الحكومية وجودها، وتقديم خدمات الدعم القانوني والحماية الحقوقية للفئات الأكثر ضعفًا وتأثرًا بمثل هكذا ممارسات.
كما يوصي المختصون بضرورة الإفراج عن الحالات المعتقلة على شاكلة حالة الطفل صابر، والعمل على تفعيل دور إصلاحيات الأحداث وتواجدها بفاعلية خاصة داخل المخيمات والمجتمعات النازحة، وتوفير الدعم القانوني والحماية للأطفال على وجه التحديد، وبقية الفئات الأكثر ضعفًا.