“كنت أحس بهيبة لما أجزع الحافة وأنا لابس عسكري بس بعدين شفت الموت بعيوني وشفت طفولتي تضيع…”
هكذا يروي محمد (اسم مستعار) ابن الخامسة عشرة رحلته من مقاعد الدراسة إلى خنادق العسكر حيث تحولت أحلامه الصغيرة إلى وجع أكبر من عمره.
طفولة بلا سند
في أحد الأحياء المتواضعة بمديرية الشيخ عثمان في العاصمة المؤقتة عدن نشأ محمد محروما من حنان الأب الذي خطفه الموت مبكرا ولم يتبق له سوى أم مكلومة تكافح من أجل أبنائها الخمسة بمعاش تقاعدي لا يتجاوز 36 ألف ريال يمني.
كانت والدته تبيع (البطاط والمدربش ( نوع من الخمير ) في الأسواق بينما يحاول محمد أن يتشبث بحلمه البسيط في مواصلة التعليم لكنه توقف عند الصف التاسع بعدما ضاق صدره بما رأى من معاناة الأم وتعبها.
شغف تكسّره البنادق
ذات مساء سمع محمد أصدقاءه في الحارة يتحدثون عن “التحاقهم بالعسكرة” وما تجلبه من رواتب واحترام فاستجاب لدعوة أحد أبناء حارته وسجل في اللواء الثالث دعم وإسناد في بئر أحمد بقيادة نبيل المشوشي.
وهكذا غادر محمد دفاتره وكتبه واستبدلها ببندقية على كتف لم يكمل نموّه ليبدأ رحلة غامضة في دهاليز المجهول.
معسكرات لا تعرف الطفولة
يقول محمد: “دخلت معسكر اللواء الثالث براتب 500 ريال سعودي، حيث تأسس اللواء الثالث دعم وإسناد في عام 2016م، كجزء من هيكلة قوات الحزام الأمني التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي. ويعتبر من العاصمة المؤقته عدن و بعض من مناطق محافظة أبين كمقرًا له.
يُقَاد اللواء الثالث دعم وإسناد حاليًا من قبل العميد نبيل المشوشي، الذي يُعرف بدوره البارز في تعزيز جاهزية اللواء. في يناير 2025، تفقد أركان حرب القوات البرية الجنوبية مقر اللواء في معسكر بئر أحمد بعدن، وأشاد بالجاهزية القتالية العالية والتزام الأفراد بالخطط التدريبية. كما أكد على ضرورة تذليل الصعوبات التي قد تواجههم، مثمنًا تضحياتهم في مواجهة المليشيات الحوثية والتنظيمات الإرهابية .
إلى جانب مهامه العسكرية، يُسهم اللواء في تقديم الدعم الإنساني. في يوليو 2024، قدم شحنة طبية لمستشفى مودية لمكافحة وباء الكوليرا، شملت محاليل وريدية ومستلزمات طبية، وذلك استجابة لمناشدات السلطة المحلية والطاقم الطبي في المديرية .
باختصار، يُعد اللواء الثالث دعم وإسناد ركيزة أساسية في جهود مكافحة الإرهاب وتعزيز الأمن في الجنوب اليمني، مع التزامه بتقديم الدعم الإنساني والتدريب المستمر لمنتسبيه.
كنا نصحي الساعة 3 الفجر نتدرب على الرماية وتمارين العسكرة وما نرجع البيت إلا كل خميس وأحيانا يمنعونا وبعد الدورة كنا ندوام شهر كامل نطلع خدمات وأحيانا نتحرك لأبين.“
حياة القسوة والانضباط العسكري حاصرت طفولة محمد وشيئا فشيئا بدأ يفقد ملامح البراءة ويتشرب سلوك الكبار وأوهام الرجولة المبكرة.
هيبة السلاح وهاوية النفس
يتابع محمد: “صح كنت أحس بهيبة لما أجزع الحافة وأنا لابس عسكري بس في المعسكر تعلمت القات عشان أسهر وشفت ناس تقطعوا يداتهم ورجولهم وكثير استشهدوا.. تأثرت نفسيا وبدأت أكره العسكرة.”
أم تقاوم القدر
تتكون عائلة محمد من خمس أبناء أخوه الأكبر التحق بالسلك العسكري وأختاه اضطرتا للعمل؛ إحداهما في التمريض والأخرى في استوديو تصوير… أما الأم فكانت تكابد خوفها بصمت تتألم في كل مرة ترى أبناءها يبتعدون عن طريق الحياة الطبيعية.
نافذة أمل
قررت الأم أخيرا أن تنتصر لأمومتها فأخذت محمد إلى مؤسسة البيئة والتنمية حيث جلس في حلقات توعية مع الأستاذ (ف.ق).
يقول محمد: ” بعد ثلاث جلسات كنت أحس براحة وبدأت أفكر بالتعليم وشفت إن العسكرة بهذا السن مش تمام.. جلست شهرين أو ثلاثة ما أروح المعسكر ورجعت أشتغل على باص بالإيجار استأجرته لي أمي.”
أحلام مؤجلة
رغم نضجه المبكر ما يزال محمد طفلا في داخله يتمنى العودة للمدرسة ودراسة الهندسة لكن الواقع أقسى من أمانيه والباص الذي يعمل عليه بالإيجار لا يوصله إلا نحو مزيد من التعب.
“نفسي أرجع أدرس واتخصص في الهندسة … ولو معي باص ملك كنت على الأقل ساعدت أمي وأخواتي “
مأساة تتكرر
قصة محمد ليست استثناء بل واحدة من آلاف القصص الموجعة لأطفال اليمن الذين خطفت الحرب أحلامهم…
ووفقا لتقارير اليونيسف قتل وأُصيب أكثر من 11,000 طفل منذ تصاعد النزاع في 2015 وتحول العديد منهم إلى وقود في ساحات القتال لا يعرفون من الحياة سوى البندقية والتدريب والمعسكر.
تقرير للمنظمة في 2022 أشار إلى مقتل 3774 طفلا وإصابة أكثر من 7200 آخرين بعضهم بإعاقات دائمة وسط ظروف إنسانية واقتصادية متردية حيث يعيش أكثر من 80% من السكان بحاجة إلى مساعدات عاجلة.
ووفقاً للحالات المرصودة سابقاً فإن 70% من الحالات تعود لحالات تجنيد في مناطق عدن ولحج وصنعاء وعمران والحديدة حيث يعد تجنيد الأطفال انتهاكا صارخا للاتفاقيات الدولية التي صادق عليها اليمن ومنها اتفاقية حقوق الطفل التي تعتبر من هم دون 18 عاما خارج أي شرعية في ساحات الحرب.
العودة لا الموت
محمد لم يمت لكنه خرج من الطفولة مبكرا وربما سيعود إليها متأخرا..
قصة محمد هي تذكير دام بأن الحرب لا تقتل بالرصاص فقط بل بخطف الأحلام وتشويه البراءة وتحويل الطفولة إلى ظل هش يتسكع بين المعسكرات.
إنقاذ محمد وأمثاله لا يحتاج فقط إلى مساعدات بل إلى قرار إنساني شجاع ينهي عبث التجنيد ويعيد الطفولة إلى مكانها الطبيعي :المدرسة لا المعسكرات.