شذا نبيل
تخرج سلمى 35 عاما كل صباح حاملة ابنتها الصغيرة معها، تلقي بنفسها في عربة نقل عمال النظافة المكشوفة لتنجز عملها المعتاد كل يوم حتى الظهر، ثم تتوجه إلى بيع المناديل في أحد شوارع مدينة المكلا، وقبل أن يكتمل النهار تقفل عائدة إلى بيتها حاملة بعض الغذاء وما يحتاجه كوخهم الصغير المصنوع من الصفيح المكون من غرفة واحدة والقابع على أطراف المدينة.
في رحلتها اليومية هذه لا تخلو من المتاعب والمضايقات ومحاولات السطو على حريتها أو حتى على كرامتها، فعلى الرغم من أنها تبذل أكثر من نصف يومها في الشمس والحر بحثا عن الرزق الحلال لا يزال البعض يرى فيها لقمة سائغة للافتراس فيحاولون التحرش بها ومضايقتها وفي أوقات كثيرة إهانتها لفظيا والتعدي على كرامتها بالشتائم والقذف.
عنف الشارع
يتميزمجتمع المهمشين نوعا ما بنوع من الحرية مع مختلف أبنائه، فنتيجة للوضع الاجتماعي الذي يضيق عليهم الخناق تعيش الأسر المهمشة في نوع من التكافل فيما بينها ولكن هذا لا يمنع أن تعاني المرأة أيضا داخل مجتمع المهمشين من تهميش مزدوج وعلى مناحي مختلفة. إن المراة المهمشة تشارك في العمل أكثر من غيرها مقارنة بفئات المجتمع الأخرى، ولكن هذا الأمر يجعلها أكثر عرضة للتحرش، إذ تبين دراسة أُجريت على عينة من مئة امرأة ورجل في العاصمة صنعاء عن العنف المُمَارس ضد المرأة في الشارع، أثبتت أن المرأة تتعرض في الشارع اليمني لأشكال العنف النفسي (المعاكسة والتحرش) بصورة أكبر من أشكال العنف المادي[1]، ونحن نعلم أن أكثر النساء العاملات لاسيما في الشارع هن من نساء المهمشات وهو ما يجعل هذه النسبة ترتفع لتصل إلى أكثر من 90%.
تقول سلمى التي لاتجيد القراءة ولا الكتابة إن مرتبها في قطاع النظافة لا يكفي مصاريفهم هي وأبنائها، وهي تضطر لبيع المناديل كي تستكمل باقي النفقات، لقد عملت الحرب الأخيرة على مضاعفة الأسعار في ظل عدم وجود أي زيادة المرتبات وتقليص في مصادر الدخل، وهو الأمر الذي ضاعف من المشكلات على كاهلها وكاهل النساء من أمثالها تماما كما عملت الحرب على زيادة وتيرة الكثير من التحديات ضد هذه الفئة.
الحرب والعنف
لقد تحولت الحرب الأخيرة إلى جحيم على المرأة وعلى الأطفال وعلى بقية المجتمع، ولكن المشكلة تتضاعف على المرأة داخل مجتمع المهمشين إذ تدفع الكثير من ثمن هذه الحرب على أشكال مختلفة، إما بمضاعفة المعاناة الإنسانية والاجتماعية أو بزيادة حدة الانتهاكات التي تتعرض لها.
ونتيجة النزاع المسلح فقد ارتفع عدد المعيلات للأسر -من النساء بشكل عام- إلى ثلاثة أضعاف عما كان عليه قبل الحرب مما ضاعف من الأعباء على النساء مع شحة في الموارد وارتفاع في أسعار السلع الغذائية، وانخفاض حاد في الإنتاج الزراعي الذي تمثل النساء فيه حوالي 80% من الأيدي العاملة[2]، وتشارك المرأة من المهمشين في العمل بنسبة كبيرة إذ يمكن القول إن المرأة المهمشة هي أكثر مشاركة في العمل سواء من خلال العمل في مجل النظافة أو في المجالات الأخرى إذ ما أتيح لها ذلك، ولكن الحرب أثرت عليها بقوة فقد تقلص هذا الدور الذي كان متاحا أمامها، فانخفضت فرص العمل والعائدات من جهة وزادت الانتهاكات من جهة أخرى.
بحسب ما تنقله عائشة الوراق في بحث لها عن المهمشين، فقد واجهت النساء والفتيات من هذه الشريحة خطرا مستمرا من الاعتداءات على أساس النوع الاجتماعي أكثر من باقي النساء، حيث كانت نساء المهمشين أكثر تعرضاً للعنف الجنسي والتحرش من قبل المقاتلين[3]، وفي الحقيقة ليس من قبل المقاتلين فحسب ولكن من قبل بعض الأفراد الآخرين الذين استمرأوا الاعتداء على المهمشين وعلى النساء منهم تحديدا لأنهن الأكثر ضعفا وعدم قدرة على مواجهة الاعتداءات في ظل عدم وجود سلطات تحميهن أو تطالب بحقهن.
إن محنة سلمى وغيرها من نساء المهمشين أنها ليست من المهمشين فحسب ولكنها امرأة أيضا، وهو الأمر الذي يجعلها داخل سلسلة من التهميش المزدوج، مرة لأنها امرأة داخل مجتمع يهمش المرأة ولا يعطيها حقها المشروع لها قانونا، ومرة لأنها داخل مجتمع المهمشين المغيب والمعزول اجتماعيا.
استغلال
وفي ظاهرة أخرى لا تعكس الوضع البائس لمجتمع المهمشين فقط ولكنها بشكل ما توضح الشكل الذي تعيشه المرأة المهمشة، فهي إلى جانب حرمانها من التعليم والحق في الحياة الطبيعية، تنمو بعد ذلك الكثير من المشكلات الاجتماعية التي تعاني هي وحدها تبعاتها في ظل أمية متفشية وعدم وجود التكافل الاجتماعي الذي يمكن أن يحميها من كل هذه التبعات الخطيرة عليها أولا وعلى المجتمع ثانيا. إذ يصل الأمر إلى استغلال الفيتات الصغيرات من المهمشين إما بالتحرش أو بالمتاجرة بهن أو استغلالهن في التسول بصورة غير مشروعة، حيث لوحظ وجود بعض السماسرة ورجال عصابات، ممن لديهم مجموعات من أطفال الشوارع والفتيات الصغيرات، ومهمتهم جمع المال من الأماكن التي يختارونها لهم، كل يوم، ويقومون بتوزيعهم في سياراتهم ويعملون بالأجر اليومي[4] ومن ثم يذهب العائد بشكل غير مشروع لهؤلاء السماسرة الذي يتكسبون باستغلال الفتيات والأطفال، فلا وجود لمؤسسات ولا جمعيات تحميهن من هذه الانتهاكات المنظمة، ولا وجود لرادع اجتماعي لمثل هذه الممارسات المهينة واللاإنسانية.
والاستغلال لا يبقى عند هذا الحد فقط، إذ تفيد سعيدة 41 عاما بأن هناك بعض الناس من يستغلونها وأمثالها من نساء المهمشين للقيام بأعمال شاقة لا سيما في تنظيف الأماكن التي يرفض الآخرون القيام بها، وكل هذا بمقابل مادي لا يساوي شيئا، إذ غالبا ما يتم النظر لهن بأنهن خلقن فقط لخدمتهم وأنهن لسن كباقي البشر.
هل من أفق للحل؟
يحتوي دستور الجمهورية اليمنية على المادة 31 التي تنص على أن “النساء شقائق الرجال ولهن من الحقوق وعليهن من الواجبات ما تكفله وتوجبه الشريعة وينص عليه القانون”[5]، ويبدو أن النص غير حاسم في النظر للمرأة وكيف معالجة مشاكلها ولا بما يتعلق بالمساواة إذ وضع الأمر في يد رجال الدين ليقرروا فيها وهو الأمر الذي لم ينتج قانونا واحدا يعزز دور المرأة في المجتمع. ولم يحو الدستور أي نص يتعلق بالمهمشين، لقد زادت -بعد العام 1990- بشكل متواتر حالة الانغلاق التي تعيشها المرأة والتقاليد الاجتماعية التي تقيد مشاركتها في الوقت الذي تضاعف فيه عدد السكان وصارت المرأة تشكل رقما كبيرا في المجتمع إلى جانب المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تحتاج الجميع، والأمر ينعكس بصورة أكثر مأساوية على المهمشين وعلى المرأة المهمشة .
بالمقابل يحتوي الدستور المقترح الذي كان نتيجة لمؤتمر الحوار في العام 2015 [6]مادتين عن المرأة: المادة 38 التي تنص على أن “تكفل الدولة تعزيز المشاركة الفاعلة للمراة في الاستثمار والتنمية الاقتصادية وتقديم الدعم والرعاية والتشجيع للمراة الريفية في مختلف المجلات”، والمادة 57 التي تنص على أن “تلتزم الدولة بدعم ورعاية المرأة وسن القوانين التي تكفل حمايتها ورفع مكانتها في المجتمع والقضاء على الثقافة السلبية والعادات الاجتماعية التي تنتقص من كرامتها” كما يتضمن الدستور مادة أيضا عن المهمشين والتي تنص على أن “تلتزم الدولة باتخاذ تدابير تشريعية وتنفيذية للنهوض بأوضاع الفئات الضعيفة والمهمشة، وتعزيز مشاركتها الفاعلة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتعمل الدولة على إدماج المهمشين في المجتمع” وهذا يعكس أن من قاموا بكتابة هذه المسودة يدركون أن المرأة من الفئات الضعيفة وفي الوقت نفسه أن المرأة داخل مجتمع المهمشين ضعيفة مرتين.
إن الحل كما يبدو من النصوص أعلاه، هو بوجود تدابير تشريعية ولكن ينبغي أيضا تغيير النمط الثقافي السلبي والعادات التي تعادي جزءا مهما من منظومة الشعب، ومن ثم فإن الفائدة لن تكون للمرأة فحسب ولا لمجتمع المهمشين وحدهم ولكن للجميع فهم جزء أساسي من المجتمع اليمني ككل. إن محاولة البحث عن حل جذري لمشكلة المرأة في اليمن، ينبغي أن تبدأ من البحث عن مشكلة المرأة المهمشة فهي تعاني من تهميش على مستويات مختلفة بدءا من تهميش العرق وانتهاء بتهميش النوع الاجتماعي.
الهوامش:
[1] – نساء على أرصفة صنعاء عرضة للتحرش والابتزاز، محمد عبدالملك، العربي الجديد، 16 مارس، 2015.
[2] – أوضاع النساء في اليمن في ظل الصراع المسلح، التقرير السنوي الثاني عن أوضاع النساء في السياسة بالمنطقة العربية 2018، ملتقى النساء في السياسة بالمنطقة العربية.
[3] – التهميش التاريخي والممنهج لمجتمع المهمشين في اليمن، عائشة الوراق، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 31 ما يو 2019.
[4] – نساء على أرصفة صنعاء عرضة للتحرش والابتزاز، محمد عبدالملك.
[5] – دستور الجمهورية اليمنية، ص: 6.
[6] – ينظر المواد المشار إليها في مسودة دستور الجمهورية اليمنية التي كتبتها لجنة صياغة الدستور في العام 2015، وكان يفترض التصويت عليها ولكن جاءت الحرب الأخيرة وأنهت كل شيء، ص: 9، 11.