محمود رزق
تعد قضية المهمشين السود في اليمن، واحدة من أكثر القضايا تعقيدا في المجتمع فهم يعانون من ظلم واضطهاد، كما تمارس ضدهم العنصرية الممنهجة، تركز هذه الورقة على الحديث عن العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية التي لها أثر في حياة هذه الفئة من المجتمع اليمني التي تحتل قاع المنظومة الطبقية، والتي أورث ذلك لها الكثير من المعاناة والألم المستمر، على الرغم من سعي الناشطين والحقوقيون اليوم من أجل تخفيفها، ولكن تظل كل تلك الجهود غير ذات فعالية طالما لم تتحول إلى سياسات وبرامج وأنشطة مباشرة تستهدف حياة هذا المجتمع وتعمل على الرفع من مكانتها باتجاه المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات.
طبيعة العوامل السياسية المؤثرة في وضع المهمشين حاليًا:
تعيش اليمن حربًا شعواء، وانقسامًا كبيرًا بين مكوناتها السياسية، مما نتج عنه عدم استقرار سياسي أثَّر تأثيرًا بالغًا على حياة كل مكونات الشعب الاجتماعية، والتي من ضمنها فئة السود، لكن كان الضغط على هذه الفئة أشد وأقسى لكونها أساسًا كانت تعيش حياة صعبة، وفي غاية الفقر المدقع في أيام العادية التي سبقت الحرب، وجاءت الحرب وإفرازاتها لتفاقم تلك الأزمات على هذه الشريحة حاليا.
وكانت تأثير الحرب والأزمة السياسة على المهمشين السود تأثيرًا مباشرًا، فتوقف الرواتب التي يعاني منه العاملون في القطاع الحكومي عانى منه العاملون من السود في قطاع النظافة، فعلى ضعف الدخل الذي يلاقونه من هذا العمل إلا أنه انقطع عليهم، مما جعلهم يعانون الجوع، والفاقة، ويعيش معظمهم على ما تجود به المنظمات والجمعيات الخيرية العاملة في اليمن في ظروف الحرب.
وأما من يعملون أعمال حرة كترقيع الأحذية والحمالة أيضا انعكس الوضع الاقتصادي السائد والمتردي على أعمالهم التي ضعفت جدا، ولم يكد مردوها يطعم أطفالهم.
كما أن كثيرا من المهمشين لجأوا إلى المناطق الأكثر أمنا، وهربوا من المناطق التي نسبة الخطورة عليهم فيها عالية، خصوصا وأن البيوت يقطنونها في مواطنهم الأصلية بيوت مهترئة مكونة في الغالب من إطارات السيارات والحجارة والطين وتسقف بقطع من البلاستيك فهي لا تحميهم من أبسط مخاطر الطبيعة كالمطر والريح فضلا عن قذائف الحرب وشظايا المعارك، فاتجهوا للجوء، وكثيرا من مخيمات اللجوء تكتظ بالسود من مختلف محافظات اليمن التي تعاني معاناة مباشرة من ويلات الحرب، وخطورة المعارك.
كما أنَّ المليشيات استغلت وضعهم المزري وتقوم بحملة واسعة من التجنيد في أواسطهم، بمبالغ مالية تغريهم بها، وكثيرًا ما يرضخون لضيق ذات اليد، وقد يستخدمون الترهيب ضدهم كما يتم تناقل ذلك في بعض أوساط السود. ولا تفرق المليشيات وقت تجنيدها لهؤلاء بين البالغين والقصر، فهي تستقطب الكل، والجميع عندها مرحب بهم، مما زاد من معاناة أهالي المجندين من السود وزاد من الضغوط عليهم.
كما أنَّه في ظل هذا التفلت الأمني الذي نتج عن الاقتتال والحرب، عانى الكثير من السود من أعمال تمييزية وعنصرية، في ظل غياب قانون يحميهم، وأصبحوا الحلقة الأضعف التي يمارس عليها الانتهاكات وقل أن تجد من ينصفها في مثل هذه الظروف.
فضلا عن المعاناة المباشرة من الحرب التي طالت أماكن سكنهم، فقد تعرض عدد من المناطق التي يسكنوها لقذائف المتحاربين، ومقذوفاتهم النارية، مما أدى إلى تدمير ممتلكات وبيوت، وإزهاق أرواح العديد منهم، فضلًا إلى عدد من الجرحى والمصابين.
وبما أنَّ البلاد تتنازعها ثلاث جهات، وعلى هذه الجهات تنقسم الأرض، فقد عانى المهمشون في كل مكان يقطنون فيه، تحت سيطرة إحدى هذه الجهات، تشترك كلها في قاسم مشترك هو العنصرية ضدهم والتمييز، وتختلف قوة وضعفًا من مكان لآخر، وسأتكلم باختصار في ثلاث نقاط عن معاناة المهمشين، بحسب تواجدهم، وتحت أي سلطة تحكمهم.
معاناة المهمشين القاطنين في الأراضي التي تسيطر على المليشيات الحوثية:
أولا ينبغي أن نعرف أن الحركة الحوثية ذات مشروع ديني قائم على أسس عنصرية، فهي ترى أفضلية بعض البشر على غيرهم بحسب أنسابهم، فإذن من الطبيعي أن يكون وضع المهمشين وضعا مزريًا اجتماعيًا تحت سيطرة مليشيات قائمة على هذه الفكرة، لهذا لا أمل لأن يتغير وضعهم الاجتماعي تحت سيطرة دينية تتبنى هذا الفكر الطبقي، الذي يشرعن للعنصرية.
ومع هذا فقد أولوا جانب المهشمين أهمية بالغة في هذه الفترة، لكونهم يعرفون أن هؤلاء مخزون بشري مهمل، وهم بحاجة لمثل هذا المخزون البشري في حربهم الطاحنة ضد أبناء اليمن، خصوصًا أن هؤلاء السود يتمتعون بأجساد قوية، وجَلَد شديد، فهم يسعون جادين في تجنيد أكبر عدد يستطيعونه من السود ليسوقوهم إلى هذه الحرب. فكثفوا الدورات التي يسمونها الدورات الثقافية في أوساط المهمشين، وخدعوهم بمعاملة حسنة وأسلوب خادع، انخدع به السود، لكونهم غير معتادين من الطبقات العليا هذا الاهتمام والاحترام الذي وجدوه، لهذا انساق لهذه الفكرة عدد كبير من السود وانضموا للحرب تحت راية الحوثيين، وعدد كبير منهم من القاصرين للأسف. ساهم في ذلك بعضًا من السود المتعلمين الذين أعطاهم الحوثية بعض الامتيازات الظاهرة كأن يسمونهم مشائخ على السود، ويغروهم بالمال، مما جعلهم يتفانون في تجنيد أكبر عدد يستطيعونه.
كذلك من أهم ما يعانيه السود الذين يسكنون في مناطق تخضع لحكم هذه المليشيات أنهم مازالوا مستضعفين اجتماعيًا، ولا يستطيع المرء منهم أن يأخذ حقوقه القانونية التي التزم له بها الدستور حين يكون خصمه من الطبقات الأخرى، خصوصًا إذا كان مع خصمه ما يقوي شوكته من النافذين.
معاناة المهمشين القاطنين في الأراضي التي يسيطر على المجلس الانتقالي:
إن أبرز ما يعانيه المهمشون الذين يسكنون في هذه المناطق هو اتهامهم من قبل المنضوين تحت المجلس الانتقالي بأنَّهم خونة وعملاء للنظام السابق، وأنهم سهلوا للحوثة وأنصار صالح الدخول للجنوب، أو اتهامهم بأنهم متعاطفين مع الشرعية.
والحقيقة أن المهمشين السود في الجنوب مثلهم مثل أي مكون يمني عمومًا وجنوبي خصوًصا، فيهم من كان يؤمن بدولة الوحدة ومنهم من يؤيد الانتقالي ورؤيته للاستقلال، وقد يكون حدث من بعضهم ما يمليه عليه انتمائه إلا أنَّه من الظلم أخذ الجميع بجرم البعض، وهذا ما حدث في الجنوب، حيث نكَّل الانتقالي بالمهشمين السود في عدن بناء على تلك الاتهامات التي أشرنا لها سابقًا، وقام بحملات أمنية عديدة، سقط فيها شهداء وجرحي، وقام باعتقال عدد من الشباب السود، وتلفيق تهم كيدية لهم، بينما يصرح أتباعه بتصريحات عنصرية تجاه السود.
ومما يعانيه السود هناك أنَّه بعد قيام كيان للانتقالي، وقويت شوكته، وسيطر عليه بعض المتعصبين المتشددين من بعض مناطق الجنوب قاموا بالترويج بأن سكان عدن وخصوصا السود منهم ليسوا سكانا أصلين، وإنما أصولهم من الشمال، والسود من الحديدة حصريا، وتعالت الدعوة منهم ومن أنصارهم بطردهم وارجاعهم لبلادهم، وتخوينهم وممارسة ضغوط اجتماعية قاسية عليهم.
كما أنَّ هناك عددا من السود هم فعليًا من النازحين بسبب الحرب من المناطق الشمالية للجنوب، لم يسلموا أيضا من المعاملات العنصرية ضدهم، فقد سجلت عددا من التجاوزات ضدهم، منها التحرش بنسائهم، وطرد عدد منهم، والتهجم اللفظي والجسدي على عدد منهم، هذا فضلًا عن النداءات المتكررة بطرد من تبقى وإرجاعهم إلى الشمال، مع ما في هذا الإرجاع من خطر حقيقي على حياة هؤلاء المنكوبين.
معاناة المهمشين القاطنين في الأراضي التي تسيطر على الشرعية:
سبق وذكرنا أنَّ هناك قاسمًا مشتركًا للمعاناة التي يجنيها السود في كل أنحاء البلد، وهذا ما يعانيه السود بالدرجة الأولى في المناطق التي يسيطر عليها الشرعية، حيث أنهم دائما ما يعانون من الاضطهاد والتعدي بدون أن يجدوا من يأخذ بحقهم.
فمما حدث وهو أمر متكرر أن يقوم بعض من المتنفذين بطرد السود من المناطق التي يقطنون فيها بحجة أن له ما يثبت أنها ملكه، وكثيرا ما يكون مجرد نفوذه وجبروته هو ما أطمعه في أخذ مساكن هؤلاء الضعفاء.
كذلك الانتهاكات التي تطال المهمشين في أعراضهم ودمائهم وأموالهم تضيع حين يكون الطرف الثاني لها نفوذه ومكانته في المجتمع، فقد سجلت حالات قتل واغتصاب بعضها لقاصرين، وبعضها كان الجناة من رجال الدولة، ومع هذا ضاعت قضاياهم، أحيانًا بالقوة، وأحيانا بالتهديد، وأحيانا بإغراء الضحايا ببعض المال وإسكاتهم عن حقهم، ولكونهم يعرفون أنهم لن ينالوه، يرضون بما يجدونه ويقفلون القضية.
كذلك هناك نازحون في المناطق التي تحت سيطرة الشرعية، ولهم معاناتهم القاسية مع النزوح وآلامه، وأحيانًا كذلك توجه لبعضهم تهم التآمر والتجسس لصالح الحوثة ويعاقبون عقوبات قاسية دون أن تثبت ضدهم تلك التهم، أو لا يكون للقانون دوره في مثل هذه القضايا لكون المهشمين مستضعفين فيضيع حقهم.
العوامل الثقافية للمجتمع وكيف تسهم في زيادة معاناة المهمشين في الظروف الحالية للحرب:
المجتمع اليمني تتفشى فيه الأمية، وينتشر فيه الجهل بنسب عالية، وكثير من الناس في البلد تتحكم فيهم الثقافة المتوارثة والتي امتلأت بفجوات تنافي الإنسانية، وخصوصًا في التعامل مع الطبقات الاجتماعية المهمشة.
ففي المجتمع اليمني يعامل الإنسان في كثير من المعاملات الاجتماعية اليومية بناء على مكانته وطبقته، ويتبوأ السود في اليمن ذيل القائمة، مما يجعلهم عرضة لأعراف قبيلة وعادات اجتماعية جائرة وظالمة، والتي جعلت حياتهم جحيم لا يطاق.
وبناء على ذلك تعرض السود خلال مراحل تاريخية طويلة لأنواع شتى من صنوف التفرقة، وتزخر الدراسات والأبحاث التي أجريت على واقعهم، بعرض الكثير من الأمثلة والوقائع، كما أن الوقائع المسموعة منهم توضح ذلك، وتصور بدقة شديدة نوع الحياة التي يعيشونها.
وسأركز الضوء في هذا الجانب على ثلاثة محاور عامة، كان التمييز فيها واضحا وشديدا تجاه المهمشين السود.
* فمن أهم المعاناة الاجتماعية للسود المهمشين أنَّ الطبقات العليا من المجتمع لا يمكن أبدا بأي حال من الأحوال أن ترضى أن تقترن بنت من بناتها بأحد من هؤلاء تحت أي ظروف كانت، فهم يرون أن هؤلاء أقل من أن تقترن بهم هذه الأسرة، وهذا يوسع الشرخ الاجتماعي بين المكونين، ويشعر السود بالمظلومية وينتقض من كرامتهم الإنسانية.
وإذا حصل وارتبط طرفان في ظروف استثنائية، فإنَّ كثيرًا من المجتمعات القبيلة تتطبق عقوبات صارمة وقاسية على الطرفين، تصل أحيانًا إلى القتل أو التبري من الطرف القبلي الذي رضي باقتران كريمته من أسود، وإن بدأت تخف قليلا هذه العادات وخاصة في بعض المدن اليمنية.
* وكذلك من الأمثلة التي يعاني فيها السود من ثقافة التميز السائدة عند بعض القبائل أن السود لا يحق لهم حمل السلاح، ولا التحزم بالجنية –الخنجر اليمني-، وكما هو معروف كيف ولع اليمنيون بحمل السلاح، ومدى القيمة المعنوية لذلك، لهذا يشعر السود بتمييز شديد وسوء بسبب التعامل معهم في هذه القضية بدونية وتحقير، والتعامل معهم على أنهم ذوو إنسانية ناقصة.
والمثال الثالث: يتعلق بطقوس التحية عند اللقاء، حيث تقضي العادات اليمينة أن يقوم المتصافحين بتقبيل كل منهما ليد الآخر عند اللقاء، ولكن عندما يكون الأمر متعلق بالسود، أي عندما يكون أحد المتصافحين أسودًا مهمشًا والآخر قبيلي أو هاشمي فإن تقبيل اليد يكون من طرف واحد فقط، أي أن على الخادم أن يقبل يد القبيلي أو الهاشمي، ويسرع في سحب يده دون أن ينتظر من القبيلي أن يقبل يده، لأن الآخر لن يفعل ذلك، ولا يمكن القول أن هذا هو الوضع السائد على وجه العموم، فهناك من الناس من يرفض تماما مسألة مجرد مصافحة الخادم، وإن اضطر لفعل ذلك فإنه يعمد إلى تغطية يده بمنديل أو قطعة قماش قبل المصافحة.
وهناك نقطة مهمة لا بد من الإشارة إليها هنا، وهي أن هذه المظاهر العنصرية تجاه السود المهشمين والتي تنتج عن العادات والتقاليد الجاهلية، تتأثر مدًا وجزرا بمدى الوعي والتعليم لكلا الطرفين، ففي المدن والمناطق التي تنتشر فيها نسبة التعليم الحديث تخف الممارسات العنصرية التي يقوم بها البيض تجاه السود، وإن لم تختفي، لكن تكون حدتها أخف، بسبب وعي المجتمع ووعيه، كذلك للحالة التعليمية للمهشمين السود أثر واضح وبالغ في معاناتهم من التمييز العنصري، فغالبًا الأشخاص السود ذوو التعليم يكسبهم ذلك بعضًا من المناعة العنصرية الدائمة، وإن كانت تبقى بعض القوانين الاجتماعية فارضةً قوتها، بغض النظر عن التعليم، مثل الارتباط بالزواج ونحوه.
يعاني غالبية المهمشين من أمية وتفشي الجهل، وهذا انعكس سلبًا عليهم في مستواهم الصحي، وخاصة في خضم هذه الجائحة التي انتشرت في عموم العالم وهي أزمة انتشار فيروس كرونا، فلكون هذه الجائحة لا علاج لها إلى الآن وإنما يكون التعامل معها بوعي، ومعرفة طرق الوقاية، ولا يتوفر لدى الأغلبية منهم هذا الوعي، وتنقصهم الوسائل التي توصل لهم هذا الأمر، وترشدهم لما يتطلب منهم أن يفعلوه ليواجهوا هذا الفيروس الشرس. لهذا كان هذه الفئة من أكثر الفئات تضررا بالفيروس في البلد.
وزاد من معاناتهم مع هذه الجائحة حالتهم الاقتصادية المتردية، وأنَّهم وإن عرفوا قيمة الحجر الصحي في مثل هذه الظروف الصحية إلا أن تقيدهم بها يعني الموت جوعا، فهم يكافحون يوميا لتدبر مصاريفهم اليومية ولا يمكن أبدا أن يلتزموا بحجر صحي، وهذا يجعلهم عرضة مباشرة لتفشي الفيروس بسرعة كبيرة وسطهم وهو الحاصل فعليا.
الوضع الاقتصادي العام للمهمشين ودور الدولة والمنظمات ومجتمع المهمشين أنفسهم لكيفية المعالجة:
الوضع الاقتصادي للمهمشين:
من خلال ما سبق يتبين لنا مكانة المهمشين الاجتماعية وأنهم يحتلون أدنى مراتب السلم الاجتماعي في المجتمع اليمني، أي أنهم جماعة تفتقر لكل مظاهر القوة، وهذا يعطينا تصور واضح عن وضعهم الاقتصادي، لهذا من المستبعد أن نتحدث عن إسهامهم في مجال الصناعة والتجارة والمال والأعمال، وإنما سيتركز الحديث حول الحياة المعيشية لهم، والأعمال التي يزاولنها، وطبيعة مساكنهم.
أما بالنسبة لأعمالهم، فهم يقومون بأعمال متعددة ومتنوعة، يربط بينهما أنها أعمال ينظر لهما المجتمع على أنها أعمال حقيرة ومعيبة، فهم في المدن يقومون بأعمال النظافة للشوارع والمجاري، وتعتبر هذه الأعمال تقريبًا حصريًا على هذه الفئة، كما أن شريحة واسعة منهم يقومون بأعمال الحمل والتفريغ للبضائع والمواد، ومنهم من يعمل كإسكافي (وهي مهنة ترقيع الأحذية والأشياء الجلدية)، وفي الريف يمتهنون الفلاحة عند الأسر التي تملك أراضي زراعية، وبعضهم يمتهن الحلاقة والغناء وقرع الطبول والجزارة. وكما هو ملاحظ من هذه المهن الأجور فيها تكون متدنية جدا وهذا يوضح لنا مكانتهم الاقتصادية وأنهم في الحضيض، وغارقون في الفقر المدقع.
وكون هؤلاء يمتهنون هذه المهنة يعود إلى واقع اجتماعي فرض عليهم، وليس إلى قناعة منهم، فهم عند الاقتراب منهم يتضح أنهم غير راضين عن هذا الواقع، وغير متقبلين لما يقومون به من أعمال خصوصا وأن العائد من هذه الأعمال شحيح جدا ولا يكفي الحاجة. وهنا يتحمل النساء في كثير من المجتمعات السوداء عبء البحث عن أعمال إضافية إلى جانب أعمالهن الرئيسية كربات بيوت أو العمل في التنظيف، فكثير منهن يقمن بالتسول في الشوارع، وبعضهن يخرجن حاملات أطفالًا صغارًا رضع على أكتافهن ليستعطفن الناس.
ولا يعني هذا غيابهم الكلي عن بقية الأعمال في المجتمع، بل يوجد منهم من يمارس غير هذه المهن، لكن غالبًا ما يعزف السود عن البحث عن أعمال أخرى لما يتوقعونه من الرفض العنصري لهم، أو المعاملة التي ستكون من نصيبهم بخلاف غيرهم من العاملين معهم على أساس عنصري بحت.
أما مساكنهم، فكما هو معروف أن مسكن المرء يعكس وضعه المادي ومكانته، وهؤلاء مساكنهم يميزها أمران، أحدهما أن رثة، ومبنية غالبًا من الطين والأخشاب المهترئة، والإطارات وقطع البلاستيك، فهي لا تؤدي الغرض الأساسي للسكن والذي يحمي صاحبه من عوادي الطبيعة، ولا تصلح للسكن الآدمي لو لا وضعهم الذي يضطرهم لذلك، والأمر الثاني أنهم يسكنون أطراف المدن، وسكنهم في أطراف المدن يعتبرون مجبرين على ذلك، قد لا يكون إجبارا بالقوة لكن لشيئين أساسيين يعتبر كالإجبار لهم على ذلك:
أولًا لطبيعية حياتهم، فهم يعيشون ويتحركون في جماعات كضرورة حياتية، وليس في المدن أراض خالية تتسع لهم يمكن إستيطانها، وإن وجدت فهم غير قادرين على امتلاكها أو استئجارها.
الأمر الثاني: يتعلق بموقف المجتمع منهم، فهم جماعات لا تحظى بالقبول الاجتماعي، وعليه لا يمكنهم العيش والاحتكاك المباشر في وسط ينظر لهم نظرة دونية، ويتحاشى التعامل معهم، لذا نراهم يتوجهون إلى الأماكن الخالية ليقيموا فيها.
ومما ينبغي التنويه له هنا أن سكنهم في أطراف المدن لا يعني أن هذا هو أمان واستقرار لهم، لا ليس كذلك، فهم في الغالب لا يملكون هذه الأراضي، وما أن تمتد المدن وتقترب من سكنهم حتى يسارع أصحاب الأراضي إلى طردهم منها وليس أمامهم إلا الرضا، وإن رفضوا فكثيرا ما يستخدم معهم القوة، وقد يصل إلى إشعال النار في تلك المنازل؛ غير مبالين بهؤلاء سواء كانوا فيها أم لا.
دور الدولة في معالجة الوضع السيء للمهمشين:
لم يكن للدولة في السابق خطوات جدية كثيرة في سبيل تغيير واقع المهشمين الاقتصادي، وإن كان بلا شك تحسن وضعهم عما كان عليه الحال قبيل قيام الجمهورية. لكن الوضع المادي بقي منهارا والفقر مخيم على رؤوسهم، كان هناك مشروع للدولة هو الضمان الاجتماعي، والذي من المفترض أن يستهدف الشريحة الأشد فقرا في المجتمع والتي بلا شك سيكون من ضمنها هؤلاء السود، لكن للفساد الذي كان ينخر في مفاصل الدولة كان لا يصل لهم منها شيء، وإن وصل للبعض فهو الفتات. ومع قيام هذه الحرب والتي مازالت قائمة حرم المهمشون من مثل هذا الرافد الاقتصادي الضعيف.
دور المؤسسات الخيرية في للتخفيف من حدة الوضع السيء للمهمشين:
انتشرت في محافظات اليمن ومديراته العديد من المؤسسات الخيرية التي تقوم بأعمال إغاثية تستهدف الفقراء في المجتمع وكان لهؤلاء الشريحة نصيب مما تجود به أيدي فاعلي الخير، وهي تشمل المواد الغذائية، وبعض المنح العلاجية، والأنشطة الموسمية كسلال رمضان الغذائية أو إفطار الصائم، أو مشروع الأضاحي.
وكانت تخفف من وطأة الظروف الاقتصادية عليهم، وإن كانت في الغالب غير مستمرة ومتقطعة، كما أنه كانت تواجه بعضهم مشكلة في استحقاق هذه المعونات، فمعظم الجمعيات الخيرية يقوم عليها إسلاميون، وكثير ما يضعون شرطًا للمستحقين وهو إلتزامهم بشعائر الدين الإسلام ولكون هؤلاء السود يتفشى فيهم الجهل، لذلك لا يقيمونها كما ينبغي فينحرمون من تلك المساعدات.
دور المنظمات الدولية العاملة في زمن الحرب في تخفيف وطئة الظروف الاقتصادية القاسية.
تعمل عدد من المنظمات الدولية في اليمن، في ظل هذه الأوضاع المأساوية، ولكثير منها جهود طيبة وملموسة في التخفيف من معاناة المواطنين، سواء بالمساعدات العينية، أو الخدمات الطبية والعلاجية، وكان للمهشمين نصيب من ذلك، بل في بعض المناطق يعيش الكثير منهم فقط على ما تجود به هذه المنظمات من معونات وخدمات.
مبادرات بعض قيادات المهمشين في التخفيف على أبناء جلدتهم وذلك بإنشاء جمعيات خيرية أو استجداء أهل الخير في القيام ببعض المبادرات.
بجهود فردية، وهمم عالية، قام بعض القيادات السوداء بإنشاء جمعيات تعاونية، أو قاموا بالتواصل مع أصحاب مؤسسات خيرية قائمة، أو أفراد من أهل الجود والإحسان والهدف من ذلك العمل الإغاثي والتعليمي الذي يخدم المحيطين بهم من السود، وكان لها مردود طيب على واقع السود الذي استفادوا منها، هذا وإن كانت المبادرات قليلة، لكنها بذرات تحتاج لتشجيع، ومبادرات تحتاج لدعم من أجل استنساخ العديد منها.
رؤية لحلول سياسية واقتصادية قابلة للتطبيق:
يمكن القول إن الحلول السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كثيرة ومتشعبة ومن الصعوبة تحديدها بشكل دقيق في هذا الحيز، لكن لعلي أذكر أبرز النقاط الرئيسية التي ستساعد على محاولة رأب الصدع المجتمعي، وستسرع من وتيرة الاندماج، وستخفف من وطئه المعاناة على السود، ويقع معظم ذلك على عاتق الدولة إن وجدت، فهي الجهة الوحيدة القادرة على تسريع وتيرة إنهاء العنصرية أو تخفيفها:
1- من أبرز تلك الحلول هو تشريع قوانين رادعة وواضحة تجرم العنصرية بشتى وسائلها، بدأ من التنمر اللفظي وانتهاء بالاعتداءات الجسدية.
2- الاهتمام بالتعليم لهؤلاء، فمن واقع ملموس رأينا إن التعليم أقرب الطرق للاندماج، ولتغير نظرة المجتمع للمتعلم وتقبله إلى حد كبير، وهذا الاهتمام يتطلب توعية في أوساطهم بأهمية التعليم، وإنشاء مدارس في أماكن تجمعاتهم، وتسهيل الصعوبات التي تواجه الكثير من الأسر منهم في تعليم أبناءهم، والحرص من الكوادر التعليمية التي يدرس فيها الطلبة السود على مكافحة التنمر لأنه أهم الأسباب التي تؤدي إلى نفور الصغار السود من التعلم.
3- إشراك المهمشين في العملية السياسية وبثهم في مفاصل الدولة، واختيار الإكفاء منهم كأعضاء في مجلس النواب، ووزراء في الدولة، ففي أوساط المهمشين نخب مثقفة قادرة على تحمل مسؤوليات كهذه، ولابد من آلية تجعل في منظورها وضعهم الاجتماعي، بحيث مثلا يكون لهم مقاعد مخصصة في البرلمان كأقلية، لأن البلد بهذا الوضع لن يختار منهم، أو لن يرضى النافذون القبليون وغيرهم من ترشيح مثل هؤلاء في الدوائر الانتخابية. والأمر أهون في الحكومة والمناصب الإدارية في الدولة، المهم أن يكون لأصحاب القرار عزيمة على إيجاد الحلول.
4- تهيئة سكن مناسب لهم، فأعظم المشاكل التي يعاني منها السود هو مشكلة السكن الصالح لحياة البشر، ولذلك أسباب كثيرة، أبرزها إنهم لا يستطيعون تملك أراضي في المدن بسبب فقرهم، لذلك يجب على الدولة أن تدرس هذا الموضوع بجدية وتخرج بحلول حقيقة لهذا الأزمة، فمن أهم حقوق البشر التمتع بسكن يليق بكرامتهم الإنسانية.
5- الاهتمام بالجانب الاقتصادي لهم، بتوفير فرص عمل مناسبة لهم، وتسهيل عمل المؤسسات الإغاثية وتشجيعها للعمل في أوساطهم، وتسهيل التحاق الشباب منهم بالتدريب المهني ومن ثم ضخهم في سوق العمل، فهم شريحة كبيرة في البلد تتبدد طاقاتها مع ما يتمتعون به من بنى جسدية قوية، وقدرة كبيرة على التحمل.
6- محاربة الأفكار العنصرية، وردم كل ما يثير هذه الأمر، سواء بمطاردة الحركات العنصرية وتجريمها، أو بقيام الأنشطة الثقافية المتنوعة التي تدعو لتقبل الآخر المختلف. أو غيرها من الأمور التي من شأنها مكافحة هذه الجريمة العظيمة.